حاورتها: ضحى عبد الرؤوف المل
الأعراف ذاتها كثيراً ما تتماهى ضمن رموز ودلالات قد تلبس لبوساً دينياً مثلاً والدين بريء منها. وفي رواية «غرق السلمون» للكاتبة السورية واحة الراهب الصادرة عن هاشيت أنطوان، الغارقة برموز واقعية لم تخل بمفاهيم كل شخصية عما تربت عليه وتشربته من أعراف وأيديولوجيات، وظروف خاصة عاشتها كل شخصية على حدة، جعلت منها في زمن التوحش الذي نعيشه تتشبه بحيوان بعينه دون الآخر. وهو ما عبرت عنه شخصية رند ،الأخ الضائع بين كونه قنفذا مدافعا فقط عن نفسه، لم يتح له تحقيق ذلك، لأن الحيونة حسب تعبيره، ليست حذاءً ننتعله أو لباساً نرتديه بمزاجنا، وإن أشبعت شيئاً من ميولنا. إنها سيرورة وليدة ظرفنا وواقعنا المتحول وحاجتنا إلى التكيف معه. لذا يجبر على التحول إلى عقرب ينتقم بلدغ أعدائه، حتى لو ارتد سمه عليه في النهاية. وهو ما جعل أمل بطلة الرواية تحدد ذاتها بسمكة سلمون اختارت السباحة عكس التيار، لوضع حملها المغاير، في رحلة هروبها وهي بين براثن اليم تقاوم غرقها.
والرمزيات تستعيض عن المباشرة غير المستساغة في الأدب، تميزه وتعكس غنى تعبيره وغنى خياله وقدرة مفرداته المجازية الإعجازية عن التهويم في تداعيات الإيحاء والرمز والدلالات، خاصة لمن عاش في بلد حُظِر عليه الكلام والتعبير فيه نصف قرن، فكانت الرموز والدلالات والإسقاطات أدوات توريته والتفافه المتواطئ مع الجمهور والقراء المقموعين مثله على المباشرة في طرح المعنى.
ومعها جرى هذا الحوار.
□ الجبروت السياسي ليس بالجديد منذ الزمن الفرعوني. لماذا الغرق في هذه المتاهات؟
ـ إن كان الجبروت السياسي وطغيانه منذ الأزل يحدد مصيرنا، ويدمر حياة وذوات كل الأجيال التي تلت الزمن الفرعوني والسومري والبابلي وغيرهم قبله وبعده، كيف لنا التعبير عن حياتنا بانتزاعها من همها السياسي المحدد لمستقبلنا، وحتى لأحلامنا. كيف لهذا المتحكم بمصيرنا منذ الأزل وإلى الأبد أن يستدعي تعامينا عن الدخول في متاهاته.. وهو جزء أساسي يقرر مصير البشر ويعكس مصداقية التعبير عن الواقع الحقيقي وعن الشخصيات الروائية التي تعكس جبروته وتحكُّمه حتى بأحلامنا؟ كما خوف الشاة التي تدرك مصيرها لحظة نحرها وتكتفي بالثغاء بدل مقاومة ناحرها والصراخ على الأقل بمواجهته، لما علينا استبعاد الحقائق بدل أن نغوص فيها ونضع الإصبع على الجرح الحقيقي؟ فكيف والسوريون يشهدون منذ نصف قرن محاولات حثيثة لحيونتهم وإلغاء إنسانيتهم، كوباء يكتسح الروح قبل الوجوه والأطراف والأنياب، إما بتحويلهم لحيوانات مدجنة أليفة مطواعة كقطيع الغنم، أو بتحريض وحشيتهم ليصبحوا الأداة القامعة لجلادهم والقاتلة بديلاً عنه لأهلهم وأحبائهم؟ وهو ما بات من صلب تكوين شخصياتنا ووعينا، كما هو جوهر روايتي هذه، التي لن تكتسب أي مصداقية لها بتناولها المسطح لقصة الشغف الصاعقة التي عاشتها البطلة مع ربيع، بالتغاضي عن الظروف السياسية القاهرة غير المسبوقة التي يعيشها السوريون، التي ساهمت بتشكيل شخصياتهم وحددت مصير هذه العلاقة وأغلب العلاقات العاطفية بهذه الدرجة الكابوسية المأساوية، التي جعلت الموت أكثر رحمة بكثير مما آل إليه حالهما وحال عشقهما الموؤد.
□ الأنوثة في السرد الروائي ظاهرة جداً، هل يمكن اعتبارها مكملا للسرد أم هو الإحساس بالذات؟
ـ ربما لكون بطلتي هنا هي امرأة تفيض شغفاً نحو عشق موؤد.. كما نحو البشر والحجر. بقيت تحمل جيناتها الإنسانية العامرة بالحب والعطاء، تستعصي معها مشاعر الكره والبغض التي شكلت نشأتها. ما يجعلها تقاوم عبرها تحولات تحيونها في زمن التوحش هذا، الذي طال كل من حولها. تحميها قوة حدسها واستبصاراتها التي غالباً ما تنتاب أنقياء النفوس المتشبعين بالتعاطف، المدعمين بقوة إنسانيتهم العصية على الارتداد، نحو أصولنا الحيوانية. ربما هذا هو المشترك الذي يوحدني بتلك الشخصية، والذي جعل حضور أنوثتي كمكمل للسرد في روايتي يشحنها بشحنات طاقات أعرفها.. وربما عشت بعض تجلياتها هذه لا أكثر. لكن الرواية بأحداثها المنبثقة من المخيلة لا تطغى فيها ذاتي، وهي بعيدة كل البعد عن أن يكون الإحساس بالذات مصدر وحيها الوحيد أو أن تكون سيرة ذاتية، بل هي تداعيات لمجموعة أحاسيس وتخيلات، أنسج معها حكايات.. وأستشعر بها أهواء مجموعات متعددة من البشر مختلفي المشارب والأهواء، صهرتها في روايتي لتكوِّن سيرة حياة عائلة متخيلة بإلهام واقعي جداً، تلخص حكاية مجتمع وبلد بأكمله كما سبق أن قيل عنها.
□ ما من حرية خارج بحر الحياة، فالعيش مع الجماعات يحتاج لسلطة وقوانين. لماذا الكتابة عن جزء مجتمعي في العالم؟ ولماذا انطلقت واحة الراهب من العائلة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة بحجم الوطن؟
ـ للحديث عن العام يجب الانطلاق من الخاص لتعميمه، أو حتى للإضاءة عليه، وإلا كنا كمن يغزل على نول بحجم العالم بأسره، لينسج ثوباً لفرد، يقصره على التلاشي فيه بدل أن يعطيه سماته الواقعية التي تنطبق على مقاس هموم إنسان بذاته وأحلامه ومفردات حياته المتقاطعة بمجملها مع ما للوطن بأكمله. ثم إنني لم أفصل شخصيتي الروائية الراوية عن الجماعات، ولم أتركها تعيش عزلة سلبية لا مغزى لها، بل بالعكس جعلتها فقط تستبدل جماعة سببت لها انسلاخاً عن إنسانيتها في زمن التوحش والحيونة.. حتى لو كانت هي عائلتها، لتنتمي لجماعات أخرى تشبهها إنسانيا، وتتوحد أناها معهم وتندمج ذاتها بالجسد الثوري العام حين تندلع الثورة وتذوق معه طعم الحرية التي هدرتها هي وجماعات المجتمع ككل ردهاً طويلاً من الزمن، يصل للنصف قرن. فالعيش ضمن جماعات خارج إرادتنا واختيارنا هو الاستسلام التام لمصير الشاة، المدركة بحماقتها أنها سائرة بقدميها نحو نحرها.. برضوخها لسلطة الطغيان، «هناك حيث يغتالنا خوفنا أولاً في بلاد الطغيان بدءاً من عائلتنا، ممهداً الدرب لإراحة أنفسنا من عناء اتخاذ قرار تسليم رسننا لقاتلنا للفتك بنا، فينسل في غفلة منا مدشناً نفسه على أنه في خدمتنا، يعمل لإنقاذ حياتنا من النهاية المحتمة المترتبة على مقاومتنا مصيرنا» حسبما جاء في الرواية. ويتضح فجأة أن التغيير حتمي وقد يتم بلحظة، بتغير الظرف ومستوى هضم الخوف مهما كانا راسخين كحجر الصوان.
□ هل تأثرت واحة الراهب بسارتر ومسرحية «أسرى التونا»؟ هل الحرب السورية هي مصدر الإلهام الروائي لك؟
ـ لست قارئة نهمة للمسرح كما الأدب أو السينما، لكني نهمة لمشاهدة النص المسرحي متجسداً على المسرح. قرأت مقالاً عن تلك المسرحية كواحدة من أهم أعمال جان بول سارتر تعتبر من كلاسيكيات الأدب المسرحي العالمي. لعل المشترك بيننا هو الجانب الفلسفي لمفهوم الحرية، الذي يحمل المسؤولية للدفاع عنها. من خلال عائلة نازية في مسرحية سارتر، وعائلة أمنية سلطوية في روايتي. وتفترق روايتي عن أي عمل مسرحي بأنها تسبح في بحار وتهيم في فضاءات تصل للصوفية أحياناً، وتحلق في حدس واستبصارات ما وراء الطبيعة أحياناً أخرى. وتمتد على مساحات تتجاوز جغرافيا الوطن الذي يمكن اختزاله بخشبة مسرح محددة المكان، إلى لا محدودية الزمان أيضا. فالرواية تمتد زمنياً حوالي قرن مضى، من أيام السفر برلك واستبدال الاحتلال العثماني بالفرنسي، مرورا باحتلال فلسطين، إلى نشأت البطلة وتطورات عائلتها في الثمانينيات، إلى أحداث 11 سبتمبر/أيلول وانهيار البرجين العالميين، وصولاً إلى الحدث الطاغي الممتد لما بعد اندلاع الثورة السورية.
□ المشهد الأدبي القمعي ليس بالجديد، والكتابة خلف الحجب الروائية هي موقف مسكوت عنه، أو غمزة ماكرة من كاتب محنك، ما رأيك؟
ـ ليس المشهد القمعي وحده ليس بالجديد، بل كل الأفكار تتكرر عبر الأزمنة، ما يميز واحدة عن الأخرى هو الأسلوبية في التعبير عنها وتميز طريقة تناولها. خاصة حين يمتلك الكاتب لتلك الغمزة الماكرة – كما عبرتِ – لكاتب محنك يملك الخيال والفكر والمشاعر الغنية، تؤهله للتحكم باللغة والمجاز التعبيري المميز بحُجُب توريته البعيدة عن المباشرة. لا شك في أن بلاغة الأدب هي وسيلته في التميز وإبعاده عن التكرار، عبر ستر المعنى العميق الأبعد بالأقرب الظاهري، وهو لعبة يتميز بها فنانو البلاد المحكومة بالاستبداد أكثر من غيرهم. فكما في السينما غالباً ما تساعد الصورة في التورية ومواربة ما يصعب قوله في العلن، أو ما يتطلبه العمل الإبداعي من لا مباشرة تواري النطق بالمعنى. كذلك جمال التورية خلف الحجب المجازية في اللغة الأدبية، تحض المدارك لحث العقل على ملاحقة المعنى من خلال الأحجبة، لا أن يتلقاها سهلة جاهزة تجعل منه مفعولاً به لا فاعلاً. وتجعل البراعة في انتقال الذهن من المعنى الظاهري إلى الأعمق حافزاً لإثراء المعنى الأصلي للعبارات ودلالاتها اللفظية، بما يتجاوز أحياناً محدودية ما أراد الكاتب إيصاله. إلى عوالم وآفاق أكثر غنى وتشعب، تتنوع بتنوع مخيلات القراء وعمق تبصرهم لما بين السطور.
□ «غرق السلمون» تثير القارئ رغم تسليطك الضوء على سلطة الأب قبل سلطة سياسية تثير صخب بطلة الرواية؟
ـ ما يثير صخب الراوية بطلة روايتي، من المفترض أن تشاركه في إثارة صخب القارئ المستهدف بروايتها لتلك الرواية، إن تمكنت من صياغة حكايتها بسلاسة ومتعة. وهذا يعني أني أصبت الهدف من روايتي، بإيصال صوت سمكة سلمون تغرق في بيئتها وعالمها الذي يفترض أن يحميها ويوفر لها كل سبل العيش وملاذاته الآمنة، لكنه يتعمد قتلها غرقاً من مكمن قوتها كسمكة سباقة في السباحة. لمجرد أنها تسبح عكس التيار، لتضع حملها المغاير في مكان آمن عذب المياه! وسلطة الأب الطاغي والأخ اليد اليمنى للأب، والزوج النرجسي، كذلك المجتمع القامع اجتماعياً بعقليته الذكورية، المؤسسة لأي استبداد إن كان ثقافياً أو اقتصادياً أو سياسياً، القادرة بسطوتها على ترويض العائلة، وبالتالي المجتمع على انقساماته ودونيته وطواعيته للأقوى، مكرسة عقلية السيد والعبد.. الدونية والفوقية في علاقة الفرد بالآخر، إن كان الأب أو الأخ أو الزوج أو المعلم أو رب العمل أو الشيخ والكاهن، فكيف إذن بمالك القوى السياسية والعسكرية بموقع السلطة المهيمنة؟ بعقليتها الأمنية المستبيحة لكل الكرامات والحيوات المتعلقة بالرجال والنساء على حدٍ سواء، القادرة على أن تحيي وتميت كل من يقع تحت سطوتها تبني وتهدم البلاد والعباد.