حاوره عبد اللطيف الوراري
عزيز أزغاي (1965) شاعر وفنان تشكيلي، ينتمي إلى جيل التسعينيات في الشعر المغربي، الذي يعتبر امتداداً في سيرورة تحديث القصيدة المغربية. وقد عاش أفراد هذا الجيل «حالة قيامية» من الإحساس بالخذلان والإحباط، وعبروا عن ذلك بلغة مجروحة وشفافة ومباشرة وغير متحذلقة، لكنهم غنموا من فائدة الانفتاح على المنجز الشعري العالمي الذي أتاحته الترجمة والوسائط الجديدة، وانحازوا إلى قصيدة النثر كإبدال شعري كوني يلتقط الأشياء الصغيرة ويعكس تحولات زمنها بوعي مختلف، على نحو وَسَّع من هامش التجريب في مقترحاتهم الجمالية.
راكمت تجربته عدة أعمال شعرية منذ ديوانه الأول «لا أحد في النافذة» 1998، حتى ديوانه الأحدث «العالم قليلا» 2023، وخلالها ظل يراقب بإصغاء وأناة تطور هذه التجربة بقدر تطور إحساسه بالأشياء من حوله، وهو يتعقبها في الطبيعة ويقوم بالتقاطها وإعادة صياغتها في جمل تعبر ـ بكثافة ودهشة – عن علاقته الخاصة والحميمية بالذات وبالآخر.
□ تنتمي إلى جيل التسعينيات الذي شكّل امتداداً للجيل الذي سبقه في سياق تحديث الشعر المغربي. في نظرك، ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب لهذا الجيل، وتمثّل إضافات نوعية؟
■ سيكون من باب المبالغة الادعاء بأن جيل التسعينيات كان له الفضل في إحداث انقلاب جذري في سياق تخلُّق القصيدة المغربية الحديثة، أو أنه شكَّل لحظة فارقة في تاريخ إنضاج هذه القصيدة، بما قد يُفهم منه أنه قطع صلته بكل ما يربطه بتراثه الشعري وانطلق من الصفر. مثل هذا الكلام فيه قدرٌ غير يسير من الادعاء ويَنِمُّ عن جهل كبير بالتاريخ. كل ما في الأمر أن الشعراء الذين يصنفون ضمن هذا الجيل كان حظهم سيئا، إذ وجدوا أنفسهم في لحظة تاريخية عصيبة، شهدت كما هائلا من الإخفاقات، إن على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، وهي الإخفاقات التي أهانت الكثير من القيم الإنسانية المشتركة. ونتيجة لذلك، وجد المبدعون عامة، وليس الشعراء فقط، أنفسهم أمام اختبار تدبير هذه الحالة القيامية من الإحساس بالخذلان، بما ترجم شحنة الإحباط التي تسربت إلى أرواحهم الهشة. وعليه، حاول شعراء هذا الجيل، كل من جانبه، التعبير عن هذه الحالة القاسية، بلغة مجروحة وشفافة ومباشرة وغير متحذلقة. وإذا كان شعراء السبعينيات قد عاشوا ما يشبه هذا الزلزال عند نهاية ستينيات القرن الماضي، بكل ما حملته هذه المرحلة من إخفاقات وطنية وقومية، وعبروا عن ذلك بأشعار نارية انتصرت للسياسي على حساب الشعري، فإن شعراء التسعينيات، تعاملوا مع تحولات زمنهم بوعي مختلف، جسده انشغالهم بالشعر في حد ذاته، والتفاتهم إلى الأشياء الصغيرة التي من شأنها أن ترفع الضيم عليه، وتؤسس لقصيدة مختلفة تستثمر في مواصلة البناء الذي بدأه شعراء الثمانينيات، دونما أي شعور بخيانة المشاعر النضالية العامة.
□ انحزتَ مع أفراد جيلك إلى قصيدة النثر في بناء ممارستك الشعرية وسط رفض نقدي في الغالب. هل ما تزال هذه القصيدة تحتفظ بالوهج الذي كان لها في البدايات الطليعية؟
■ ما سميته «انحيازا إلى قصيدة النثر» لم يكن، في تقديري، محكوما بتخطيط مسبق، ولا كان مرهونا بقناعة تؤسس لدفوعاتها بخلفية «قتل الأب الشعري» ومسح الطاولة، في أفق تجاوز منجزه المؤسس، وإنما كان تجسيدا، فعليا، لضرورة الانتماء التلقائي إلى سيرورة العصر، وإلى لحظته الشعرية التي باتت مكرسة كإبدال شعري كوني. صحيح أن النقد، على قلة الأسماء التي كانت منشغلة، في حينه، بتحولات القصيدة المغربية الحديثة، لم يكن مطمئنا إلى هذا التحول، وهي حالة طبيعية، بكل تأكيد، بل وفطرية تذكرنا، في كل مرة، بردود الفعل المناوئة لكل جديد قبل أن يشتد عوده ويفرض نفسه. إلا أن هذا الرفض، في حد ذاته، كان بمثابة النار التي أنضجت هذه التجربة وأغنت طموحات أصحابها. أما بخصوص سؤالك عن مدى احتفاظ هذه القصيدة بالوهج الذي كان لها في البدايات؟ فأظن أن حالة التراجع والترهل والانكماش التي أصابت كثيرا من القطاعات الحيوية في مغرب الألفية الثالثة، ألقت بكلكلها على مختلف التعبيرات الفنية بتفاوتات واضحة بكل تأكيد. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، القيمة الرمزية والاعتبارية للمنظومة التعليمية، التي عرفت، خلال العقدين الأخيرين، على الأقل، تراجعا مهولا أصاب فعل القراءة عامة، وقراءة الإبداع الشعري على الخصوص، في مقتل، ومن أسباب ذلك، غياب صناعة إبداعية حقيقية، من شأنها أن تحول الفعل الثقافي إلى قناة لتجذير وعي ناضج بروح المواطنة عبر تمثل خصوصية الثقافة الوطنية، ناهيك عن أهمية ذلك في فتح آفاق جديدة تدعم دينامية الاقتصاد الوطني. ففي تقرير أنجزه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي سنة 2016، في موضوع «اقتصاديات الثقافة» أعدته مجموعة من الخبراء يشتغلون ضمن لجنة «مجتمع المعرفة والإعلام» خلص إلى أن من أسباب ضعف قطاع نشر الكتاب وتداوله تعود، في جانب منها، إلى تعدد المتدخلين وعدم احترام تطبيق قانون حقوق المؤلف، إضافة إلى النقص الحاصل في عدد الخزانات والمكتبات والمراكز الثقافية، وهو النقص الذي تقدره تقارير منظمة اليونيسكو في 4000 خزانة.
□ أصدرت باكورتك الشعرية «لا أحد في النافذة» عام 1998. كيف تستعيد المناخ العام وحماسة الشباب في تلك الحقبة؟
■ لحسن حظي أنني لم أكن أملك، قبل سنة 1998، الإمكانات المادية اللازمة، التي تسمح لي بالدفع بمجموعتي البِكر إلى المطبعة، وإلا لكنت قد ارتكبت «جريمة شعرية»! بسبب ما كنت أعيشه من مراهقة إبداعية. إن طموح إصدار الديوان الأول، وعلى نفقة الشاعر في الغالب، كما كانت تجري الأمور في ذلك العهد، تعد مغامرة حقيقية، إذ غالبا ما تكون غير محسوبة بالشكل المطلوب، بحيث يكون الشاعر، وهو في مقتبل حياة الكتابة، واقعا تحت تأثير نوع من الخدر الشعري المراهق، الذي ينقصه قدر غير يسير من النضج والتجربة. هذا التأخر الاضطراري، في إصدار ديواني الأول، أزعم أنه مكنني من إنضاج قصيدتي على نار هادئة، بتنقيحها وتشذيبها وتنخيلها، بروح متعلمة ومنصتة وبوعي وقلق شديدين، إلى أن استوت بالشكل الذي جعلها تبدو مقبولة. ولا أخفيك أنني أحب هذا الديوان وما زلت، إلى اليوم، أبرمج منتخبات منه في الملتقيات والأمسيات الشعرية التي أشارك فيها. وعلى عكس دواويني السبعة اللاحقة، حظي ديواني الأول بمواكبة نقدية وباحتفاء، مغربي وعربي، مُفرحين بالنسبة لشاعر شاب كان ما يزال (ولا يزال بكل تأكيد) في مقتبل تجربته الإبداعية.
□ من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور؛ منذ عملك الأول «لا أحد في النافذة» حتى «حانة الذئب» 2020، نلاحظ احتفاءك بالكتابة الشذرية التصويرية من جهة، وانفتاحك على مدوّنة الحياة التي عشتها، أو حلمت بأن تعيشها. كيف تقيم هذه العلاقة المتوترة بين خطاب كثيف وذاكرة حاشدة بالأحداث والاستيهامات؟ أو بعبارة أخرى، ما الذي يبقى من سيرتك الذاتية في سياق الشعر؟
■ أظن أن من أكثر «فتوحات» قصيدة النثر جسارةً كونها منحت هامشا أكبر لذات المبدع الفردية في علاقته، بطبيعة الحال، بالآخر المتعدد والمختلف، بما يعنيه ذلك من غوص عميق في تجاويف هذه الذات وما يعتمل داخلها من فوضى وانكسارات وطموحات حالمة ومشتركة إنسانيا، وتحويل كل ذلك إلى قصائد طريفة. أضف إلى ذلك، احتفاء هذه القصيدة بالعرضي والهامشي والهش والزائل، وهي مشاهدات والتقاطات أثيرة بالنسبة لي. ولا أدعي، والحالة هذه، أن لي القدرة أو الرغبة، حتى، على/ في تغيير العالم، إذ لستُ سوى كائن بسيط يتعقب الأشياء المهملة في الطبيعة، ويقوم بالتقاطها وإعادة صياغتها في جمل تعبر عن علاقتي الخاصة والحميمة بها. إنها، في تقديري، مهمة صعبة، كما أنها وسيلتي الصغيرة التي تصلني، ولا شك، بالآخر، على اختلاف ثقافته ومعتقده واقتناعاته الشخصية. ومتى دَرَّب الشاعر ذائقته الشعرية على هذه الأشياء البسيطة، فهم طبيعة القناة التي ينبغي أن تساق فيها. من هنا تبرز خاصية التكثيف التي أشرت إليها، مع ما يستتبع ذلك من لغة بسيطة ومباشرة تراهن، في تجربتي الصغيرة على الأقل، على تقنية دهشة التخلص (الانصراف أو القفل) غير المتوقعة، أكثر من رهانها على المفارقات اللغوية المفتعلة.
□ يُرى انصرافك شبه الكلي إلى فنّ التشكيل مبدعاً وناقداً. هل هو عزوف وسأم شخصي من الكلمة، أم عزاء إضافي في زمن لا شعري؟
■علاقتي بالتشكيل، وبالتصوير الصباغي على وجه الخصوص، تسبق، تاريخيا، كتاباتي الشعرية الأولى. حدث، في القرن الماضي، أنني لم أكن أملك ما ييسر لي إمكانية صقل هذا النزوع نحو الأشكال والألوان والكتل، والعمل على تطويره بما يُخَلِّق طموحي. الأمر الذي فرض عليّ تأجيل ذلك إلى أن تتوفر لي الإمكانات المادية الضرورية لاستئناف هذا الشغف. وإذن، لا أعتبر نفسي طارئا على حقل التشكيل، ممارسة ومواكبة وكتابة في شؤونه. ولا أزعم، في هذا السياق، أنني ناقد فني أو جمالي، على الرغم من أن أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه عالجت إشكالية تطور الخطاب النقدي التشكيلي في المغرب، كما صدرت لي، عطفا على ذلك، ثلاثة كتب تعنى بالصورة والتصوير والجماليات حاز أحدها على جائزة الشارقة للنقد الفني التشكيلي (2019). كل ما في الأمر أنني أنتسب إلى حقل الكتابة في الشأن البصري بخلفية إبداعية، أي بلغة هي أقرب إلى الكتابة الشعرية منها إلى صرامة النقد الجمالي الأكاديمي. أما عن انصرافي «شبه الكلي إلى فن التشكيل» كما تفضلت، فالمسألة لا تعدو أن تكون عودة إلى أصل، أي استئنافا لنشاط ظل مرجأً لأسباب مادية خالصة كما أسلفت. وهي، إصافة إلى ذلك، رهان شخصي، مُعْلَن، على تطعيم ذائقتي الإبداعية بممارسات إبداعية أخرى تختلف، فقط، في وسائطها وفي أدواتها التعبيرية. بالمناسبة، أعرف عددا من الشعراء والكتاب يمارسون التصوير، إلا أنهم يحرصون، حرصا شديدا، على إحاطة «جرائمهم الفنية» بكثير من السرية! اتقاءً لسخرية حفاري القبور من الفاشلين وعديمي المواهب. لا أعتقد أن هذا اللجوء، من حين لآخر، إلى حاضنة التصوير، يعبر عن عزوف أو سأم من الكلمة، كما ينبغي عدم تفسير هذا الأمر باعتباره انصرافا عن كتابة الشعر في زمن بات فيه الشعر غريبا. أزعم أنني حافظت على إيقاع منتظم في الكتابة وفي النشر أيضا، على الرغم من حالتي الإحباط واللاجدوى اللتين باتتا تتملكانني في السنوات الأخيرة. ومن ذلك أنني لم أعد أملك الرغبة نفسها في نشر قصائدي الجديدة مرة في الشهر مثلا، ربما أجد تفسيرا لهذا الأمر في تراجع الصحف الورقية لفائدة هيمنة الحوامل الإلكترونية، هذا التحول أفقد عملية النشر المتواترة إغراءها وجاذبيتها.
□ ماهي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة؟ وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه بعين الرسّام؟
■ لستُ من المنافحين عن ضرورة توفر طقوس خاصة من أجل مباشرة فعل الإبداع؛ من قبيل الاستئناس بنوع موسيقي معين، أو الهدوء، أو ما إلى ذلك من مقتضيات تهيئة ظروف «مواتية» للكتابة. أكتب وقتما خطرت ببالي فكرة أو حين أكون ممتلئا بما يستوجب ذلك. وقد يحدث هذا الأمر في مقهى أو في أي وسيلة نقل عمومية أو داخل «بيت الراحة» حتى. لا يختلف عندي الأمر في شيء. وبسبب خساراتي الصغيرة، على الأرجح، لم أعد، عطفا على ذلك، أنتزع القصيدة من خلوتها، أو أتعقبها وأتوسل إليها. فلم يعد في مقدوري أن أرمم شيئا، كما أن لا رهان لي على كتابة الشعر. إنها مجرد متعة شخصية صغيرة أمارسها كلما فرضت نفسها عليّ!